
عزيزي القارئ، هذا المحتوى لن يعجبك فهو لا يعجبني أنا ايضا. بل يؤلمني ويجعلني اكتب الساعة ٣ فجرا بدلا من النوم
اليوم قررت ان استعمل حروف لغتي. قررت ان استعمل العبارات بجذورها، والكلمات التي كونت شخصية وطبعة مجتمعي وحياتي.يجدر القول بأنني لم استعمل الفصحى منذ زمن وهذا يخيفني قليلا لانني اشعر بانني افقد جزءا من الماضي. ماض لا اريد ان افقده. وكأنني افقد جزءا من هويتي الثقافية العربية. من طفولتي ودروسي ومدرستي
لقد بدأت قليلا بالتاقلم مع واقع انني لن اعود الى وطني قريبا. ساكون صريحة جدا، جزء كبير مني كان يعيش في وهم، وجزء اخر كان يحميني، وجزء يريد ان يحلم ويتأمل. وبذلك، كنت دائما في حالة سياحة. اعيش كانني سائحة في هذه البلاد وفي اي لحظة احزم امتعتي واعود الى قريتي الصغيرة، ومنزلي بين اشجار الصنوبر، وسريري حيث استيقظ مع بروز اولى خيوط الشمس من الجهة الشرقية، وحيث ارى خطوط الالوان في الافق على بحر الغروب. جزء كان مستعدا للعودة الى طبيعته، حياة الصخب وعدم الاستقرار، حياة الخوف والتشويق، ضوضاء الاصدقاء والعائلة، اصوات الجيران وعائلاتهم، الموسيقى في جوف الليل عند الجبل المقابل، الاضواء وليالي الصيف الهادئة عند انقطاع الكهرباء، وماراثون القفز من سجادة الى اخرى في شتاء جبلي، حيث ترف الدفء ينحصر في غرفة واحدة فقط. زحمة السيارات وتسارع الناس في طريقهم الى بيروت حيث بضع دقائق متأخرة قد تصبح ساعة اضافية. بائع القهوة على “الاوتوستراد” و الالف او الفين ليرة الزائدة التي نتكارم بها كبخشيش لهؤلاء الاشخاص. سجائر الصباح وفتحة شباك السائقين.رماد، ثم شفة قهوة، نفس سيجارة، برنامج الابراج عند الصباح…حتى لو في قرارة انفسنا، الابراج خرافة، ولكننا نتمسك بامل صغير خرافي، لعل اليوم يصبح جميلا، لعله يحمل خبرا سارا، رزقاً طيباً، او شخصا جديدا يُدخِل على حياتنا القليل من الحركة، في وسط ديناميكية روتينية
اتصفح “الفيسبوك” ، ثم انتقل الى “انستاغرام”، واقفز كريشة “راكيت” من جهة لاخرى، ارى تعليقات الناس، تهجمهم على بعضهم، اختلاف وجهات النظر السياسية، تحديات البعض، انتقادات، تهديدات، لاجد نفسي كل مرة في تلك الافكار، انني انا، ومئات آلاف اللبنانيين، ندفع ثمن هذه الكلمات. فئة من الناس مغلوب على امرها، لم تستطع الهرب من الواقع كما فعلت انا. لم يحصلوا على تأشيرة، لم يستطيعوا ايجاد عمل، او حتى منحة جامعية، تنقذهم من براثن الاشخاص المسيسين المحيطين بهم. هؤلاء، فقط، احزن عليهم. لا تعني لهم السياسة، ولا السياسيين، ولا الطائفة، ولا الدين. يريدون العيش ، بسترة، بكرامة، بفرح، بقليل من الحب، عائلة صغيرة، وشريك يدعم، ورحلة من وقت الى آخر، بحر وشمس، وعمل ينجحون به
وهناك فئة، تدعي الفهم، وتدعي انها ضد الفساد، وتدعي انها متحررة، اشخاص من جيلي، ربما اصغر حتى، يتم اطعامهم وتلقينهم كيفية التفكير، وهم، اخطر من الفاسدين بحد ذاتهم، لانهم وبصراحة، غير مدركين لكيفية مشاركتهم في الفساد، والجهل اكبر عدو للتحرر والتقدم، واكبر عدو للانسان والانسانية. اشخاص يدعون الثقافة، والمشي على خطى اجيال عريقة، لكنهم غير مدركين ان الزمن تغير، وزماننا بحاجتنا نحن ، بفكر مختلف، وافعال مختلفة، ومبادئ مختلفة. هؤلاء، لا احزن عليهم، يستحقون الفقر الحضاري والحياتي الذي يعيشون به، لانهم اختاروه ، وشاركوا فيه، ولا زالوا يشاركون. في هذا الزمن ، لا حجة للجهل. نحن لسنا كأهلنا. هذا ابدا لا يعني انهم جهال، ولكنهم في شبابهم افتقدوا الى المصادر والموارد اللازمة للحصول على كمية المعلومات التي نحن نحصل عليها اليوم بكبسة زر. ومع ذلك، انحدر الفكر اللبناني، وانحدر مستوى المجتمع ، وانحدرت مبادئ الناس وطريقة كلامهم، معاملتهم لبعضهم، تهجمهم على بعضهم للاسباب الخاطئة، وسياسة الالغاء التي يتشربونها. انا او لا احد. نفسي ثم نفسي
سياستكم هذه يا رفقاء، تعيد تفعيل الفساد القائم في منظومتنا، بل تؤكد انكم انتم المشكلة، وليست السلطة ولا الدولة الا انعكاسا بسيطا جدا، لما انتم عليه في حقيقتكم. اسفي الوحيد، هو انني انا، واشخاص مثلي ندفع ثمن جهلكم، وغبائكم، وغطرستكم، ونرجسيتكم، التي تدعون بانها حرية، بينما انتم تتنعمون بجبال جميلة، وبحر جميل، وشمس دافئة، وطقس معتدل يرد الروح الى مكانها، تتنعمون بلبنان ونحن نمشي كالبدو الرّحّل من بلاد الى بلاد نبحث عن بديل قريب. شيء يشبه لبنان، ونبحث ونبحث، وفي رحلتنا، نخسر حب الحياة، نخسر هويتنا ، نخسر عائلاتنا، نخسر لحظات حياتية مصيرية، ونخسر اصدقائنا، نخسر الشمس والبحر، نخسر الربيع المزهر والخريف المعتدل، والصيف الراقص، ونبقى في غربة لا نهائية، نبحث عما يشبه انفسنا وحياتنا، ولا نجده،ونحلم بوطن فيه اناس يشبهوننا، حتى نعود الى لبنان جثثا هامدة ، لا عاشت فيه ولا عاشت خارجه. بينما انتم منهمكون بالدفاع عن فلان وفلان، وبينما تتعصبون لطائفة تافهة لا تعرف اصول الدين اصلا، وتتعصبون لكيان صغير لا فرصة له بالحياة ولا الكينونة، تصرون على إحياءه، وتنسون كينونة باكملها ، وهي ان تكون انسانا. وأن تتحلى بالانسانية. لا يكفي ان تتكلم وتكتب وتتعلم وترتدي الثياب التي ستعيش سنة او اثنين في خزانتك، وعطورك وسياراتك الفخمة او المتكسرة، كلامكم التافه لا يغير الواقع، بانه طالما كلامكم العدائي موجود، طالما انكم تساهمون في ما انتم فيه
والنظر الى المرآة صعب جدا. والجاهل واثق من نفسه بينما العالِم يشك بنفسه في كل لحظة
لقد وصلت بكم نرجسيتكم، لدرجة انكم تظنون بانكم مصلحين واخيار ، وان الاشرار هم “الآخرون”.طبعا لا يهم من هم “الآخرون”، المهم انهم “آخرون” ، لانكم في اعينكم انتم دائما على حق. ولكن ، في خضم ضوضائكم، تمر الحياة، ويتطور العلم، والكرة الارضية تتغير، والفضاء يصبح مألوفا اكثر فاكثر، والطب يتغير، ووسائل النقل تتغير، بيئة العمل تتغير، والحياة تمضي والناس مشغولة بعلومها وابحاثها، تتغير معالم الحياة البشرية كما نعرفها، بينما انتم مشغولون بتفاهاتكم وسطحيتكم وحقدكم على بعضكم الاخر. تستحقون ذلك، وعسى ان تدمركم كراهيتم، فيصبح هناك امل، لاشخاص يحبون لبنان، ويحبون الحياة، ويستحقون ذلك الوطن، بان يعودوا ويبنوا ما دمرتموه بافكاركم وافعالكم وفسادكم اليومي المتشرش في كل حركة وكل فعل
لا تنظروا بحسد،على كل من سافر، ولا تنظروا بغيرة، من شعوب قد بنت بلدانا “راقية” فانتم اينما وجدتم لن تعرفوا ثقافة البناء ولا ثقافة الحياة. لانكم لم تنظروا الى غيركم على انهم بشر، ولم تكلفوا انفسكم بتضحية في سبيل مصلحة الغير. ولم تضحوا بمصالحكم لسبيل مصلحة الوطن والكل. طالما تعيشون في ثقافة ” نفسي وغيري يسطفل” طالما انتم لستم بشرا بعد. وطالما هذا الفساد والانهيار يليق بكم. انتم، واهلكم، اخذتم ارضا جميلة، وحولتوها الى مقبرة الحياة والاحلام
وعزيزي القارئ، قبل ان تقرأ وتضحك بتهكم، احرص على انك لست منهم
ربما هذا الشخص هو انت، ربما هو جار لك، او زميل، او احد من الاقرباء. الحقيقة تجرح. ولكنها حقيقة. اذا نظرت الى حياتك، او حياة احد هؤلاء ، ونظرت الى الاستراتيجية اليومية، سترى انك انت، او احد من محيطك ايضا مثل هذه المنظومة ، تعيش كالفطريات، على حساب صحة الجميع. تقود بسيارتك كالمتهور، لا تلتزم بقوانين، حين تسنح لك فرصة استغلال شيء، تستغل، بحجة رزقك، كلامك مؤذي غير بناء، وتعتبر ان هذا ذكاء وحيلة في الحياة. ترى انك ضحية، ولا تفعل شيئا حين تسنح لك الفرصة للتغيير لانك مقتنع بانك لن تغير شيئا. لان الجميع يفعل ذلك ، لماذا انا اغير؟ ماذا سأغير انا وحدي؟ اذا انت منهم.. انت مثلهم، وانت منهم
فالانسانية، بحاجة لكفاح، ونضال، ومواجهة مستمرة، وتشكيك بافعال الاخرين، وتشكيك بافعال “المنظومة”، وتحسين وتطوير ومسائلة مستمرة لافعالنا قبل افعال الاخرين
تنتهي حريتك، حين تبدا حرية غيرك وانانيتكم تنتهي ، حين يبدأ تشردنا في بقاع الارض
عسى ان ينظف هذا الجيل باكمله من وباء الجهل، وعسى ان تفتحوا اعينكم، على انفسكم، انكم ستموتون، دفاعا عن لا شيء، والحياة لن تذكركم، الا بانكم جيل قد مر، كان حثالة ، وفسادا وتخلفا وجهلا، جيل دمر حياة اجيال باكملها ومستقبل اشخاص وامة باكملها. وانتم لا زلتم في قوقعة غباءكم، تهتفون لفلان لانه حصل لكم البنزين، ولفلان لانه دفع اقساط مدرسة اطفالكم، ولفلان لانه “زفت” الطريق، وفلان لانه دفع ادويتكم. جيل قطع حياة جيل آخر، كان يجب ان يكبر في استقرار، ولكنهم الآن فقدوا ابسط احلام الطفولة
كيف ننتظر منكم معاملة الغير على انه انسان، اذا انتم لا تعرفون حقوقكم ولا تنظرون الى انفسكم كبشر
عذرا، ولكني لم اشارك في الفساد السياسي ولا في فساد التصويت، ولم ادفع رشوة، ولم افضل حقي على حق غيري. كنت اقف في وجه الخطأ حتى لو كنت ضحية الاذى. لكنني كنت محظوظة بانني هربت. لا اكثر ولا اقل. لن اقاوم لناس مثلكم، ولن احارب كي ابني وطنا فاسدا مبنيا على كراهيتكم، ولن اضحي بنفسي من اجل ارضي طالما هناك كائنات شبه بشرية تعيش فيها وتحتلها. لكني احزن، بانني افتقد غرفتي، وابكي كثيرا وافتقد عائلتي. لدي كهرباء ودفء ومياه، وميترو وترامواي، واستقرار وهدوء. لكني غريبة في غربة، بينما انتم تعيشون انقطاع الكهرباء مع احبائكم. وتمرضون في احضان امهاتكم ، وتستيقظون تحت شمسكم . ريت هناك احد، يدفع تذاكركم جميعا الى الخارج، ونعود نحن، كي نبدأ كل شيء من جديد وخذوا الكهرباء وخذوا الدواء ، ودعونا نبني لبنان ببساطة ولكن ربما بأكثر نقاء
كلماتي قاسية جدا، ولكنها وليدة واقع نفسي متأرجح بين الحزن والكآبة. هي وليدة تجربة قصيرة ولكن مكثفة.
ابي قد كان يتحسس من احاديث السياسة والدين في المنزل، وعلى الرغم من انه كان يشاهد الاخبار ويتحدث عن الوضع باستمرار مع اخوته والجيران وبائع الخضار في ضيعتنا، لكنه منعنا من التحزب، ومن التكلم عن الدين. شكرا جزيلا له. لان هذا ما كنا بحاجة اليه، كي نجد طريقنا بقناعة وكي نتعلم حب الاخر من دون شروط. ولدت على هوية درزية، لام غير درزية، وتعلمت ان احب الناس، لاني احبهم، ليس لانتمائهم، ولا لانهم يصلون او لا يصلون، ولا لكيف يصلون. اخترت ديني بنفسي، وهو ليس الدرزية، لان كل ما تعلمته عن هذا الدين، هو سياسة الفصل والنظر باستعلاء عن من هم من غير هذا الدين. لقد سمعت من معلمة الفلسفة ، ان الذين يتزوجون من غير دروز، ابنائهم يحملون دما غير صاف. نعم. في ظل صراعي مع اكتشاف هويتي، وبلوغ المراهقة حيث كل شيء غير واضح، معلمتي التي كانت رسالة للفلسفة “والحضارات” قالت ان دمي غير نظيف، غير مدركة ان امي ليست لبنانية حتى. لا زلت اتذكر كلامها حتى اليوم، واشكر ربي انني ابنة أبي في هذه الناحية، انني تعلمت ان احب، واحترم الناس، واساعدهم، دون خلفية، دون حكم، من يؤمن، كيف يؤمن، اين ولد ولمن ولد. طالما هناك اشخاص مثل هؤلاء، في نظامنا التعليمي، لا امل ببناء وطن. ولا وطنية، ولا انسانية. ولا حتى حضارة
سهل جدا ان نلوم كل العالم على ما نحن فيه كلبنانيين، ولكني قليلا ما رأيت اشخاصا، مدركين لما يتطلبه التغيير الفعلي. وما هو واجب الفرد تجاه مجتمعه، وتجاه نفسه
كثيركم فطريات.. وقليلكم مغلوب على أمره، نحزن عليه، اننا لا نستطيع بامكانياتنا المحدودة انقاذكم من الواقع المرير في تلك الارض المحتلة
اترككم مع صورة سماء تافهة لكثير منكم، وذات قيمة لكثيرين اشتاقوا ان يجلسوا تحتها مع اهلهم
..يتبع